رواية بداية بلانهاية .. نصر سليمان
الجزء الأول
قابعا في شرفتي في ليلة شتوية نسماتها باردة.. وزخات مطر تضرب حولي سياجا يزيد من وحدتي..أرتشف قهوتي .. وأنفث دخان سجائري ..تدثرني ثياب صوفية ..دفئها يسري في أوصالي ..يدغدغ إحساسي ومشاعري ..وقشعريرة تدب في جسدي ..ونشوة تثير أشجاني..تجتاحني وتهز أركاني ..توقظ قلبي من غفوته ..وتبعث في نفسي الحياة .
أقلب بصري في سماء تحجبها سحب سوداء.. يتخللها وميض برقا يخطف الأبصار ..وهزيم رعدا يرجف الأوصال.. و قمرا ينساب متسللا.. بازغا بين الظلمات .. يلفظ أنفاسه تحت وطأة غيم الشتاء ..يشع ضوءه على استحياء ..كهل ذهب صباه..يتشبث بأحلامه.. فانتفض يجدد شبابه ويزيح عن كاهله ثقل أيامه .
أتأمل دخان سجائري.. يرسم في الأفق لوحة تهتز إثر موجاته ..تتكامل معالمها وسرعان ما تتلاشى ..تتلوها موجات تنقش صور تترنح وتتداخل ..وتتسارع أنفاسي تبث دخان يتصاعد يزيح عن كاهلي حملا وحمما يضيق بها صدري ..وسرعان ما ينقشع مختفيا وكأنه طائر أطلق سراحه من محبسه.
تغيب معالمي وتلتهمها سحابة دخان تلفني ..قابعا "أبي الهول "في مجلسه .. شارد الذهن ..أتأمل عهدا مضى .. وحاضرا بين يدي .
انتفاضة قلب تنتشلني من زمن مضى ..وأيام خبى بريقها ..وتلقي بي في كتاب حياتي ..أقلب صفحاته ..أتأمل سنين من عمري تجاوزت الخمسين .. أتشبث بقطار حياتي ..أدرك بعض محطاته ..قبل أن يلفظني وينهي رحلته .
عصيان وتمرد .. وإزالة صدأ سنين ..تنطلق الروح جامحة ..شيطان "علاء الدين "..كسرت راية بيضاء ..ونزعت من قلبي فتيل ..تتسارع دقاته "قنبلة "..قابلة للتفجير .
ورخات مطرا على وريقات شجرا أضناها خريف ..تزيح غبارها .. وتقبل شمسا تبعث حياتها.
أزحت عن كاهلي غيوم شتاء تثقلني ..وغطاء يحجبني عن عالم حي زاخر حولي ..ونفضت أفكارا خيم ظلالها على عقلي.. تسري سمومها تصيب قلبي .
ركنت للاستسلام وتيبست أوصالي ..ودرت في فلك الأيام تلفني حتى زويت ..تركت ربيعا خلفي وسارعت الخطى لليالي شتاء باردة.. كادت أن تودي بي وتقذفني خارج زماني ومكاني .
تسارعت دقات قلبي.. ودفيء يسرى في جسدي ..وتمرد نفسا تنتفض..وحياة تدب في روحي .
لحظة بعث كسرت قيودي ..ونزعت أغلالي وأطلقت ماردا داخلي.. قيد زمنا..وأوصدت أبوابه..ثار محطما جدرانه وانطلق من محبسه غير عابئ نداءاتي .. محررا ما تبقى من قلب نابض ونفس تواقة وروح وثابة .
و يتمرد داخلي الإنسان..ينزع ملابس أثقلتني ..ويطفئ سجائر غيبتني ..ينقشع دخانها ..تتجلى ملامحي ..وسماء تصفو يسطع قمرها .
أفقت أبحث عن ذاتي , حياتي .. حبا أفتقده , ماء أروى به زرعا جفت جذوره وذبلت أوراقه.. أتشبث بقطار مجري وأحاول أسرع خطواتي .
أسرعت أستدعى الحقيقة من عالم الخيال ..وأتواصل مع أفكار وأشخاص تتوارى خلف شاشات الحاسوب .. ربما أدرك ونيس وحدتي ..وجليس صحبتي وأجد منشدي وغايتي ..وكان للقدر تدابيره وقادني إلى موعدا كنت قد هيئت نفسي لاستقبال موجاته المتدفقة وأحداثه المتلاحقة ..وحياة زاخرة بدأت منذ اللحظة الأولى التي التقيت فيها ناريمان في محادثة عبر شاشة الحاسوب ..استمرت دقائق معدودة كانت "قبلة حياة " أنعشت قلبي وأيقظت مشاعري .
فقد تعارفنا وتلاقت أرواحنا وأنجذب كلانا للأخر..وتسارعت دقات قلوبنا ..وتفتحت حواسنا ..وربط الحب سريعا بين قلبينا ..وكأنه ينبوع ماء يروي أرض جرداء ..فتنطلق بذورها خضراء يانعة ..وتتفتح أزهارها فواح عطرها .
دامت لقاءاتنا ..واستمرت أحاديثنا ..تجاذبنا معا تفاصيل حياتنا ..تشاركنا خطب أيامنا..تباكينا ..تضاحكنا ..حلمنا ..وحلقت آمالنا .
ومرت الأيام سريعة ..تقربنا ..توحدنا ..تجمع بين قلبينا .....تعودتها ..اعتدت ضحكاتها ..أدمنت مناجاتها ..آنست وجودها ..قدست مواعيدها ..تعبدت في محرابها .
تدفقت مشاعرنا ..تآلفت أرواحنا ..تعانقت نفوسنا ..ورسول الحب والشوق يطوف بيننا ..
حبيبتي في ريعان شبابها وربيع عمرها ..وتسكن في بلدا عربيا بعيدا عن بلدنا و مسافات طويلة تفصل بيننا ..يتخللها بحارا وأنهارا ..وصحراء شاسعة وجبال شامخة ..دارها عن عيني بعيدة..وهى في قلبي قريبة .
وسريعا تطورت علاقتنا وتوطدت صداقتنا.. وأدركنا أننا تعارفنا وتلاقينا لنكمل معا رحلتنا ونتوج سويا حبنا ..ونقبض بأيدينا سعادتنا ..فرحنا ..وشكرنا قدرا جمع بيننا ..وبارك لقاءنا.
وشرعنا نخطط لأيامنا ..ونرسم واقع حياتنا ..ونذلل عقبات في طريقنا ..ونفند مشاكل تعترضنا .
وتغلبنا على صعاب كادت أن تطيح بأحلامنا .. واستطعنا أن نمهد لحياتنا ..وعزمنا على استكمال مشوارنا ..وحب يجمع بيننا ..يتوجه زواج يحقق حلمنا .
وعكفنا نضع اللمسات الأخيرة للوصول بسفينتنا إلى مرساها.. وتحقيق أمانينا وغاياتنا المنشودة .
وفي خطوة مفاجئة قررت ناريمان زيارة بلدنا في رحلة قصيرة تتعرف خلالها على ثقافاتنا..وعاداتنا ..وتقاليدنا ..وأيام تجمعنا سويا ..نعيش واقعا حلمنا به كثيرا ..ولقاء يجمعنا ..تتشابك أيدينا ..وتتعانق أعيننا .
سعدت بقرارها ..وانتظرت حضورها ..وعددنا الأيام ..واحتسبنا الساعات ..وأعددنا أنفسنا للقاء حلم وحياة .
أردنا ..وأرادت الأقدار ..وكان لها ما أرادت ..فقد انحرفت بنا عن مسارنا .. وبدلت أمورنا ..وأطفأت بهجة نفوسنا ..وجعلت الأحزان رفيق دربنا .
اجتر ذكرياتي ويكاد يقتلني الندم أن شجعتها يوما على قرار سفرها ..ولكن ماذا يفيد الندم مع تصريف القدر ؟؟
نصر سليمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكراً لكم مع تحياتنا القلبية بعبق الزهور