'' قطار العمر ''
صغيراً كنت حينها لا اتجاوز السادسة من العمر كان صراخي يشق صدر السماء وأنا ممد على سرير المعاينة في عيادة الطبيب ، كنت أحوج إلى المشفى من عيادة طبيب ،لكن منطقتنا لم تكن تحظى بالإهتمام التام من قبل المسؤلين لذلك لم يكن فيها مشفى
.والخدمات الطبية فيها كانت ضئيلة بالكاد مستوصف كنا نسميه المستوصف الأحمر كان يقدم اللقاحات للأطفال فقط ، بينما العيادات لم يكن يتجاوز عددها الخمسة في كافة أرجاء كوباني .كان صراخي يزداد ارتفاعاً كلما رأيت الطبيب وعلى كتفه سماعة المعاينة ، لم يكن هناك شيء قادر على تهدأتي فآلام الكلية شديدة والمعاناة التي لاقيتها لا يدركها إلا من عاشها ، فمنذ نعومة اظفاري وأنا أعاني آلام الكلى. وفي هذه السن الصغيرة انطلقت حصاة من الكلية في طريقها إلى الطرح لكنها علقت قبل نهاية الطريق ببضعة سنمترات ، كان والدي يحاول تهدأتي كان يجثو على ركبتيه ويداه تحتضنان يدي وكأنه يشحنني بالشجاعة والثبات والأمل .لكن الألم لم يتوقف وشرع الطبيب في عمله بعد أن أحضر الملاقط والإبر وأشياء أخرى مخيفة صرخت -بكيت -شتمت وحاولت النهوض لكن والدي والممرض منعاني وتولا مهمة بقائي في السرير دون حراك وتحولت غرفة الطبيب إلى غرفة عمليات كان لابد لهم من إخراج الحصاة العالقة إذ كانت تسد الطريق وتمنعني من التبول ، كنت أرى دموع أبي تنهمر وهو يراني أتألم لكن مشرط الجراح مثل محراث الفلاح يهدم كي يبني . انتهى الطبيب من عمله باستخراج الحصاة بعد معاناة لا يمكنني وصفها بعد أن تلقى مني شتائم لا تحصى ، ارتحت قليلا لانتهاء المهمة كان جسدي قد ابتل بالعرق وعيناي محمرتان ووجهي غارق في الدموع وبدأت اعصابي ومفاصلي تهدأ وتتراخى وغادرها التشنج وكأن إبرة المسكن بدأت تعطي مفعولها .داهمني النعاس وكانت آخر صورة رأيتها هي صورة أبي وهو يقبلني ويحتضنني ويمسح الدموع عن وجنتي ، كان ذلك قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة .
وطال نومي وكأني نمت لسنوات بل لعقود ورأيت منامات غريبة كأن كبرت وعملت على إعالة الأسرة وكان الحمل ثقيلاً ثم تزوجت صار عندي أولاد وأفقت على ذلك المشهد مشهد الطفل المريض لكن بإختلاف بسيط
طفل ممد في عيادة الطبيب يعاني آلام الكلى
والد يجلس قربه يحتصنه يواسيه ويحاول أن يزرع فيه العزيمة والأمل
الطفل يبكي
الوالد يهدئه
كان المشهد ذاته لكن الأدوار اختلفت
في المشهد الأول كنت الأبن
أما في المشهد الأخير كنت الأب
وبين المشهدين قرابۃ خمس وثلاثون سنۃ
رباه كيف مر قطار العمر سريعاً .
" محمد بركل حبش "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكراً لكم مع تحياتنا القلبية بعبق الزهور