_ المِسْمارْ _
________
اﻷديب الشاعر..وليد العايش..
أطلَّ الفجرُ بعد ليلةٍ باردة، كان يحملُ جُعبتهُ الممتلئة بعطرِ وردة جورية، وبعض الثرى، لم تكنْ الديكة نائمةً في ذاك الوقت، صراخها يعلو رويداً رويداً ليوقظَ ما تبقى من دجاجاتٍ مُتثائبةْ .
على حافةِ المدينة تقبعُ شبهَ وحيدةٍ تلكَ القرية الصغيرة، تحتسي الغروبَ كأساً من شرابٍ فينيقي مُعتّقْ، تحتفلُ بثوبها الغجريّ كلما مرّ القطارُ من جوارها .
- قلتُ لك بأني لم أعدْ أريدُ أولاداً يامراةْ ...
- لكنها مشيئةُ اللهِ يارجل ...
- أصبحوا تسعة ... ألا يكفي ... رمى بالفأسِ بعيداً، التحفَ بُردعتهُ العتيقة، ثُمَّ توارى مع خيوط الشمس الأولى .
الطينُ يشنُّ حملةً على قدميهِ المُتثاقلتين، لا يكاد أنْ ينفُضَ إحداهما حتى تمتلئَ الأخرى، جسدهُ الثقيلُ يُرخي بوزنهِ على القدمين الباردتين، وجههُ الأسمرُ يُطلُّ على الخيمةِ القريبةْ .
- أبو حمدان ... أينَ أنت ...
- هُنا ... هُنا يا أبا ثامر ... تفضلْ ... كانت النار تبثُّ بعضَ الدفءِ في عِظام الرجل البدوي، بينما كانت زوجته تُجهّزُ خُبز ( الصاج ) بجوارِ الخيمة، الأغنامُ غادرتْ مأواها منذُ وقتٍ قليل، بقي هنا فقط أبو حمدان وزوجته، والضيفُ الصباحي الآتي لتوِّه ... روى لجارهِ ما دارَ بينهُ وبينَ زوجتهِ منذ دقائق فقط ، كانَ يشعرُ بانقباضِ في صدره، احتسى فنجانَ القهوة المُرّة ثمَّ هبَّ واقفاً ...
- إلى أينَ يا أبا ثامر ... اجلس ... المرأة تُحضّرُ الفطور ...
- لدي بعض العمل، أودُّ أنْ أنتهي منه، السماءُ تنذر بالمطر , فقط أعطني رغيفاً ساخناً ...
أسرعَ الوقتُ كما عجلاتِ القطار، مرَّ ذلك اليوم دونَ شيءٍ مختلف، أمّ ثامر التي لمْ تُنهِ عقدها الثالث بعد ترتدي ثوبها الريفي برائحةٍ بدوية، نظرتْ إليهِ بطرفِ عينها دونَ أنْ تنبسَ بكلمةٍ واحدة .
الفِراشُ باردٌ جداً في تلكَ الليلة، الأولادُ ناموا باكراً، أبو ثامر يتقلّبُ في فراشهِ , لم يشأ أن يطرحَ أيّ كلام، الزوجةُ تتظاهرُ بالنوم كعادتها ، إنّه كيدُ النساء عندما يُصبنَّ بالغضب , نعيق البوم يكسِرُ حاجز الصمت رويداً رويداً ...
- إنهُ ميتْ ... ميتْ , يا ربّاه ... ( قال أخيه ) ...
- ولكن انظرْ إلى هنا، دمٌ جامدٌ خرجَ من أذنه اليسرى ...
- رُبّما يكون قد أصيب بنوبةٍ دماغية، فهي تفعلْ مثل هذا ...
غادرَ أبو ثامر بيتهُ الريفيّ لآخر وإلى غير رجعة، تركَ خلفهُ تسعة أطفالٍ، وآخرَ مازالَ لم يرَ ضوءَ القمر .
في الرحلةِ الأخيرة إلى المقبرة كانَ كلّ شيءٍ يسيرُ في سياقٍ واحد، لا شيء يوحي بأنَّ هناك أمراً ما، الزوجةُ تبكي ( غصباً عنها ) , انتهى الأمر مع غروب الشمس , رقد في لحدهِ حاملاً معه لغُزاً لم يستطع أحد أن يفسّره .
خمسة عشر عاماً مرّتْ منْ هنا وكأنها أيام قليلة ، تزوجتْ أمّ ثامر منْ شابٍ يصغرها بأكثرِ من سبعةِ أعوام، الأطفال التسعة أصبحوا ثلاثةَ عشر، أصبح مُعظمهم رجالاً , بعضهم تزوجَ وأصبحَ ربّ أسرة، ثلاثةٌ منهم سافروا خارجَ البلدةِ النائية، جمالُ أمّ ثامر توارى في ظِلِّ السنوات التي مضتْ مُسرعة، أما الشابُ الذي تزوجها ذات يومٍ لجمالها، فقدْ تزوجَ بأخرى تاركاً لها ثُلّة أطفالٍ آخرين.
مساءٌ مُتعثّرُ الخُطا يعبرُ بطيئاً ، لقدْ رحلَ أحد شباب القرية الصغيرة، ثلاثةُ شبابٍ , ورجلٌ ستينيّ يحفرون القبرَ للوافدِ الجديد ...
- يا إلهي ... ما هذا ... انظروا إلى هذه الجمجمة !!! ... حملها بينَ كفيهِ المُرتعدتين، قذفَ بها صوبَ الرُجل الستيني، تأملها كثيراً، نظرَ إلى مكانِ القبر ...
- إنّهُ قبرُ أبو ثامر ...
- ولكن انظرْ ... هنا مسمار ... إنّهُ مسمار ...
- اصمتوا يا شبابْ ، دعونا نواري الميت أولاً ...
نسي أهل القرية الشابَ الميت، بدأت قصة أخرى نبشتها معاول صغيرة في لحظة حزينة , حضرتْ الشرطةُ إلى المكان، هناكَ حَدثٌ ما يجري خلفَ كواليس بيت أبو ثامر ...
- منْ أينَ أتى هذا المسمارُ يامراةْ ... ( قال المحقق ) ...
- لا أدري ... لا أدري ياسيدي ... دموعها كانت تسابق كلماتها , بينما أزيز الريح يبدو مختلفاً في هذا الصباح ... - أنتِ الوحيدةُ التي تدري منْ أين أتى ... يجبْ أنْ تُخبرينا قبلَ أن نذهبَ إلى مخبرِ الأمنِ الجنائي ...
لمْ يعلم أيّ واحدٍ من أهل القرية بما جرى وراء القضبان , الوقت كان حارّاً جداً , فمضى دونَ أن يستأذن , المحققُ يتشبث برأسه , لعلّهُ كان يريد أن يفعل شيئاً آخر .
تناثرَ الأولادُ مابين مُصدّق لما يجري، وما بينَ مُدافعٍ عن أمّهِ التي شارفتْ على حافةِ الستين , وحدهُ شقيقُ أبو ثامر أصرّ على إكمال التحقيقْ , في اليوم التالي اجتمعَ الجميعُ في غرفة التحقيقِ الصغيرة ( الزوجة، الشاب الزوج، الأولاد، والرجل البدوي أبو حمدان ) ...
- نعم أنا التي دققتُ المسمارَ في رأسه كي يموت بعد أن شرِب فُنجان قهوة ، لكن هذا من علمني ماذا أفعل ... أشارتْ إلى الشاب الذي كان يحتسي وجههُ بكفيهِ ...
- هل منْ طلبٍ آخر ... قال المحقق ...
- نعم نريدُ فحص الحمض النووي لأخي وهذا ال ( .... ) وللأولاد أيضاً ...
خلعَ الطبيبُ الشرعي المسمارَ الذي مازالَ عالقاً برأسِ أبي ثامر ... نقطةُ الدم المُتجمّدة كانت هناك، حملَ أبو حمدان الجمجمة، قبّلها بشغفٍ، ثُمَّ أعادها إلى مكانها .
جلبةٌ وضجيجٌ في الخارج , طفل صغير يصرخُ بصوتٍ طالَ عنانَ السماء : ( من أبي ... من أبي ... أخبروني من أبي ) ... في ذاكَ المساء كان المطرُ بارداً جداً ...
________
وليد.ع.العايش